المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف(1)
يعلمنا رولان بارت أن عالمنا الراهن يصنع أساطيره أيضاً، ويبدو أن الإنسان بحاجة دوماً إلى أساطير تعينه في العيش، والتكيف والتواصل، وقد باتت صناعة الأسطورة وظيفة سياسية، ويؤشر أرنست كاسيرر ظهور قوة جديدة مفزعة في الفكر السياسي الحديث هي قوة الفكر الأسطوري حتى ( أصبحت غلبة الفكر الأسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية الحديثة . وولادة الأسطورة تحددها شروط اجتماعية/ تاريخية، ولها في الغالب أساسها من الحقيقة والواقع، وإذا كانت تتخذ أشكالاً لاعقلانية فإنها تتوجه نحو مقاصد هي في الصميم مرسومة بقوة العقل ومنطقه. وبحسب كاسيرر فقد ( وصفت الأسطورة دائماً بأنها نتيجة لفعل لا شعوري، وبأنها نتيجة لانطلاق الخيال، ولكننا في الأساطير السياسية الجديدة نرى الأسطورة تتبع مخططاً فهي لا تظهر عشوائياً. إنها ليست ثمرة شيطانية من صنع خيال خصيب. إنها أشياء مصنوعة قد صنعها صناع مهرة ماكرون إلى أبعد حد .
أما هربرت ماركوز فيؤشر إمكانية رجوع الفكر العقلاني إبان تقدم الحضارة إلى الحالة الميثولوجية، وكما يشير: ( ما زالت عناصر التضليل الأسطوري تستخدم إلى اليوم، وتستعمل بصورة منتجة في الدعاية والإعلان والسياسة. فالسحر والخزعبلات يمارسان تأثيرهما على نحو روتيني ويومي في البيت والمخزن والمكتب، وينتشي الناس ويشدهون بالإنجازات العقلانية التي تحجب لاعقلانية النظام ).
وبعد ربع قرن يعود نعوم تشومسكي ليتحدث مجدداً عمّا تفعله الإستراتيجيات الإعلامية للرأسمالية الغربية من تكريس للأصولية واللاعقلانية في مجتمعاتها، حيث يقول عن المجتمع الأميركي بأنه لا يقل أصولية عن المجتمع الإيراني، في سبيل المثال.
ها هنا يتم خلق مجتمع هش، فاقد القدرة على النقد والتمييز، مطواع، ومن الممكن أن ينقاد بسهولة لأية مزاعم.. تختلط عنده الحقائق بالأكاذيب والأوهام. أما أولئك الذين لم يعودوا يطيقون هذه الرذائل والخدع، ويعيشون حالات من العزلة والاغتراب فإنهم يُقصون، ولا يتاح لصوتهم النقدي التأثير في الوسط الاجتماعي. وقد يتشبث بعضهم، بعد طول يأس، بالخرافات والخزعبلات أيضاً، يتوسلون المعونة من وراء عالمهم الواقعي، أي أنهم يلجأون إلى الأساطير ـ الضد، واقعين في الفخ ذاته. فاليوم يبتكر النظام الاستهلاكي رموزه وطقوسه وآلهته كذلك، أي أسطورته، وتسوّق هذه الأسطورة إعلامياً وثقافياً، ومن خلالها يجري تقنين الحاجات والرغبات والأذواق والقناعات. وما يحصل هو بهرجة وتنوع ووفرة، مع إفراغ كل شيء من المعنى، وربما لهذا قال جان بودريار عن أميركا بأنها صحراء من اللامعنى.
يتقن المجتمع الراهن صناعة الزائف، لا في شكل أقنعة فحسب، وإنما على هيئة أغراض حيّة. ولقد بات إنسان عصرنا متوائماً ومتواطئاً مع مناخ الزيف هذا، إلى الحد الذي لا يعد وعيه واكتشافه للمزيف عنصر إرباك يجعله يراجع نفسه أو يتراجع. وإذا كان الإعلام بأجهزته وآلياته ومؤسساته وإستراتيجياته يسوّق الزائف فإنه لم يكن وحيداً في الميدان.. إن مؤسسات شتى، سياسية وثقافية تعاضدت معه لتكريس العالم الزائف الذي نعيش فيه.
إن إنسان العصر صار يتبع تقاليد وأعراف وتعاليم ديانة زائفة هي ديانة الاستهلاك البورجوازي.. إن كل شيء مهيأ للاستهلاك بثمن، فحتى ما هو روحي يتحول إلى سلعة.. لقد سقطت مقولة السلوك الاقتصادي الرشيد، والبحث عن أقصى درجات المنفعة إزاء توجه هذا الإنسان المظهري حيث الادعاء والتفنج.. إنه يريد أن يكون شيئاً ما، هاماً، من خلال استهلاكه، أمام الآخرين.. إن كثيراً من الرياء والنفاق يطبع سلوكه كما سلوك الآخرين من أقرانه، في ضمن مجتمع لم يعد يأبه كثيراً بالتمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف. وعند هذه الفجوة تتجلى فداحة الأزمة الأخلاقية للمجتمع.
إن إستراتيجيات نظام الاستهلاك تخلق في النهاية الإنسان الممتثل، المدمج في واحدية الاتجاه البراغماتي، حيث الجميع ديدنهم مصالحهم الأنانية الضيقة.. إن تلكم الإستراتيجيات كفيلة بضخ الحيوية في جسد الرأسمالية وترويض أزماتها. والاستهلاك مع تحوله من ظاهرة اقتصادية إلى أسطورة يضمن للمجتمع الرأسمالي تجديد نفسه، واستمراره.
والآن، صارت الموضة علامة مجتمع الاستهلاك، فلا شيء يلبث على حاله ـ على الأقل في الظاهر ـ فالموضة اختلاف على صعيد الشكل، غالباً.. اختلاف مؤقت، مهدد بموضة أخرى "اختلاف آخر مرتقب" وهي جذابة إلى حين.. المختلف المؤقت والجذاب شكلاً، بديل عن حضور المعنى، فالجاذبية، ها هنا، تفتقر إلى أي مضمون ذي دلالة عميقة. وفي مجتمع خاضع لآلية إنتاج الموضات ستكون الضحية الأولى هي الحرية، فأنت حر في أن تتبع الموضة، وإلاّ ستنبذ وتهمش، وهذه الآلية تشتغل على صعيد الثقافة والإعلام كما تشتغل على صعيد سوق السلع والأزياء، فقد غدا اختراع واختلاق الموضات الثقافية بديلاً عن إحداث تحولات جوهرية في عالم الثقافة.
إن الموضة تقطع مع ما مضى.. إنك معها ممنوع من التذكر، ناهيك عن الاستعادة.. إن المطلوب أن تكون معاصراً، وفي هذه الحالة حتى المستقبل لا يهم إلا بمقدار ما تتقرب موضة أخرى لتقطع مع الحاضر.. إن صناعة الموضة خديعة رأسمالية للحيلولة دون صناعة الثورة.
وشيوع موضة ما تحقيق للقطيعية، فمن خلالها يجري إدماج البشر في إطار ظواهر شكلية أو سلوكيات، أو ممارسات محددة، حيث تغدو للموضة مضمونها السياسي.. إن حدثاً أولياً ـ قصة شعر مطرب، مثلاً ـ تتناسل كاريكاتورياً بعد أن تستنسخ بمئات آلاف النسخ على مئات آلاف الرؤوس لتعرض في كل مكان ـ أحياناً في القارات كلها ـ والمستنسخون كاريكاتورياً هم مقلدون، أي أنهم لا يستطيعون أن يكونوا أنفسهم.. إنهم يهربون من أنفسهم من خلال الموضة إلى ما هو زائف، مضحين بتفردهم وحريتهم الذي يبدو أنهم يخشونها، أو يخشون عبئهما.. إن هؤلاء هم، في حقيقة الأمر، قطعان مهيأة للانقياد بحسب مشيئة السلطات القائمة.. إنهم مشاريع فعل لكل ما تقتضيها الإستراتيجيات العاملة في مؤسسات الهيمنة والسيطرة والتحكم.. إن المجتمع الذي يدّعي أنه ديمقراطي يسعى من خلال آليات صيرورته إلى تجريد الإنسان من هاتين الخصيصتين اللتين هما دعامتا أية ديمقراطية، أي الإحساس بالتفرد والحرية. فمن يختار الحرية والتفرد يصور كحالة شاذة ومنبوذة، لأنه وقف وربما من دون أن يدري ضد إيديولوجيا المجتمع الاستهلاكي، وموجهاته الخفيــة، ( فالرفض الفكري والانفعالي للامتثالية يبدو وكأنه علامة عصاب وعجز ) كما يقول ماركوز.
وساعدت صناعة الصور على ترسيخ ظاهرة الموضات، في الحقول كافة، ولا سيما في المجتمعات ذات البعد الواحد ـ وأي مجتمع ليس كذلك في وضعنا التاريخي الحالي؟! ـ إن الاختلافات السطحية المصنوعة في سوق الموضات تشوش رؤيتنا لمسألة افتقاد مثل هذا المجتمع إلى التنوع الحقيقي.
تفتح صناعة الصور الأبواب واسعة أمام تنويع المعلومات وتدفقها واتاحتها لشرائح عريضة من الناس، في مختلف أنحاء العالم، بيد أن هذه الصناعة باتت تخضع لمنطق رأسمالي/ براغماتي هدفه مخاطبة عقول سلبية تتلقى هذه الصور، بشكل جاهز، وتتقلبها، كما هي، لتبني على أساسها أحكامها وتقويمها للأشياء والأحداث من دون رؤية نقدية. ويتنبه مفكر من طراز الفرنسي "ريجيس دوبريه" إلى هذه المعضلة فيؤلف كتاباً بعنوان ( الميديولوجيا ) والتي يقصد بها ( العلم الذي يدرس الوسائط المادية التي يتجسد عبرها الكلام ) ويطلق على المجتمع البشري "دائرة التواصل الإعلامي" ويرى في طوفان الصور الذي يحاصر الفرد المعاصر مفارقة أنها بدلاً من أن تشحذ الرؤية فإنها تسبب العماء.
إن الرؤية النقدية تكون بحاجة إلى فرشة معلومات كافية لتدعم مشروعيتها العلمية، لكن التدفق المشوش، وغير الموجه لقصدية واضحة للصور والمعلومات يسعى لتقويض الرؤية النقدية وسلب الشروط الموضوعية التي تجعل من تلك الرؤية إمكانية تتحقق. وفي حقيقة الأمر فإن ما يجري، بهذا الصدد، هو هذا بالتحديد، إضعاف ملكة التحليل والنقد عند الإنسان، ومن ثم إدماجه في ضمن قطيع ذي بعد واحد أسقط من قاموسه كلمات كانت في السابق القاعدة المفاهيمية للمثقفين ذوي النزعات اليسارية، ومن أمثلتها ( الكفاح الاجتماعي، الصراع الطبقي، التحرير القومي، الاشتراكية، حق تقرير المصير، الفكر الحر، الخ ).
إن ما يحصل هو تزييف للحاجات.. إن الإعلان والدعاية والإعلام هو ما يقرر للفرد ماذا يختار من سلع وأدوات وألعاب ووسائل لهو وتسلية، وآراء في شؤون الحياة ( فما الترويح عن النفس، واللهو، والعمل والاستهلاك حسب إيحاءات الدعاية، وحب ما يحبــه الآخرون وبغض ما يبغضونه إلاّ حاجــات كاذبــة في غالـب الأحيان ). كما يرى هربرت ماركوز.
إنك لا تختار بوحي إرادتك.. إنه الإعلان والإعلام الذي يوجهك في الاختيار. وإذا ما أدركنا دوافع الإعلان التجارية والسياسية أمكننا الاستنتاج بأن النظام الرأسمالي قادر بإستراتيجياته وآلياته على تسيير الإنسان على وفق مقتضياته وأهدافه البعيدة.