الاعلام الجديد .. وكسر الاحتكار بقلم د.خالد الخاجة
شهدت وسائل الإعلام الجماهيرية على مدار تاريخها وما زالت، تطورات متلاحقة يحيطها الغموض في بدايتها واضطراب في أسلوب التعامل معها والتنبؤ بآثارها المستقبلية، إضافة إلى القلق من أن تطغى الوسيلة الجديدة على ما سبقها من وسائل إعلامية. وليس هذا بجديد، فقد بدأ منذ اختراع المطبعة على يد «يوحنا غوتنبرغ» في منتصف القرن الخامس عشر، وكيف أثرت على الكتاب المخطوط الذي كان يقتصر اقتناؤه على النبلاء، لكلفته التي تفوق طاقة العامة من الجمهور.ويأتي القرن السابع عشر مبشرا بالصحافة الجماهيرية، وهي من بنات أفكار الفرنسي «إميل دي جيراردان»، التي مكنت البسطاء من الجمهور من الإطلاع على ما يدور حولهم من أخبار، في الوقت الذي كان فيه بعض أقطار العالم العربي يعاقب بالحبس من تضبط لديه صحيفة من عامة الشعب، باعتبار أن ذلك شأن الصفوة ولا يجوز للعامة أن يدسوا أنوفهم في شأن الحكم أو أمور السياسة.وعند ظهور الإذاعة المسموعة في بدايات القرن العشرين، صاحبها نفس الهاجس من أن دولة الصحف قد ولت، خاصة وأن الإذاعة المسموعة تملك إمكانيات صوتية تزيد من استقطاب الجمهور من الذين لا يجيدون قراءة أخبار الصحف، وهم كثر في ذلك الوقت. وصاحبتها ضبابية في سبل التعامل معها كوسيلة جديدة، في عالمنا العربي تحديدا، للدرجة التي جعلت رابطة أصحاب الصحف يشترطون على الإذاعة عدم إذاعة الأخبار، خوفا من التأثير على حجم مبيعاتهم، وامتنع بعض كبار قراء القرآن عن تسجيل حفلاتهم، اعتقادا منهم أن ذلك سيؤثر على مصدر رزقهم أو الاستغناء عنهم مستقبلا.وثابرت الإذاعة حتى حصلت على حقها في إذاعة الأخبار وأصبحت أحد أهم جوانب تميزها، ثم جاء سحر الصورة وثورتها مع الصندوق السحري «التلفزيون»، لتتجدد نفس هواجس الخوف من تأثيره على المسرح والسينما والإذاعة.. وسيرا على نفس الدرب،يرفض كبار الكوميديانات في عالمنا العربي تسجيل مسرحياتهم لإذاعتها تلفزيونيا، خوفا من عدم إقبال الجمهور على مسارحهم، مما أفقدنا تراثا فنيا زاخرا كان من الممكن أن يكون بين أيدينا اليوم.. وهكذا كان حال كل وسيلة جديدة من وسائل الإعلام عند ظهورها لأول مرة، أداة نخبوية يحيطها الخوف الذي ما يلبث أن يتبدد، وضبابية في التعامل تفقدنا الكثير.ولم يثبت أن وسيلة جديدة ألغت وسيلة أخرى، ولكن ربما تدعمها وتستفيد منها، إلا أن ما حدث في العقدين الأخيرين فاق كل ما شهدته وسائل الإعلام، من أشكال جديدة غيرت بشكل جذري الأشكال التقليدية لوسائل الإعلام، نتيجة للتزاوج بين المعلومة وبين تكنولوجيا الاتصال وشبكات الكمبيوتر، وهو ما يطلق عليه «الإعلام التفاعلي» الذي لم يعد الجمهور في ظله ذلك الكائن السلبي الذي يتلقى ما يقدم إليه ويستجيب له بشكل فوري، بل أصبح له دور فاعل ومؤثر في اختيار الرسالة الإعلامية وتحديد مساراتها، للدرجة التي بدلت السؤال الكلاسيكي: ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمهور؟ إلى عكس الاتجاه: ماذا يفعل الجمهور نفسه بوسائل الإعلام؟ وأصبح الجمهور إلى حد بعيد يصنع إعلامه، بدلا من أن تكون للإعلام وحده سطوة تحديد أولويات القضايا التي يفكر فيها الجمهور.وأكبر ما يميز شكل الإعلام الجديد، هو خروجه عن الطوق الرسمي (الحكومي) الذي فرض رسالة إعلامية ذات اتجاه واحد بشكل إجباري، ليصبح الفرد نفسه هو المتحكم فيها، مما أضاف بعدا جديدا لحرية الإعلام، وأوجد ما تجدر تسميته بـ«المواطن الصحفي»، فكل من لديه القدرة على التعامل مع الانترنت، يمكن أن يمارس دور الصحفي ويكسر احتكار المؤسسات الصحفية أو الصحفيين، لإمداد المجتمع بالأخبار وإن كانت مهاراته أقل.ولا شك أن ما قام به الشباب في العالم العربي من فضح بعض ممارسات رجال الشرطة من قهر وتعذيب، ونشرها على الشبكة العنكبوتية، أو ما قام به «جوليان أسانج» الاسترالي صاحب موقع «ويكيليكس» من نشر وثائق لممارسات سياسية، سواء اتفقنا على صحتها أو اعتقد البعض منا أن هناك حلقة مفقودة فيها ستظهرها الأيام القادمة، إلا أننا جميعا نتفق على أن ما نشر جعل العالم مشدوها لأحد أهم تطبيقات ذلك الشكل الجديد من الإعلام، الذي أعتقد أنه سيظل في تصاعد مستمر، سواء من الناحية الكمية أو النوعية، يصاحبه نفس الجدل والغموض؛ هل كشف الحقائق، وخاصة في الغرب، حق متأصل للأفراد أم مجرد شعارات فجة يثبت زيفها الآن؟الإعلام الجديد الذي سنشهد صعوده بوتيرة متسارعة فيما هو قادم من الأيام، ليس فيه لاعبون ومشاهدون، بل الكل فيه لاعبون، سواء كانوا محترفين أم هواة، وسواء كانوا من الصفوة أو المهمشين. إعلام يقوم بكل الأدوار المتوقعة وغير المتوقعة، لا توجد موانع تحده أو سقف يحول دون صعوده.وهنا يذكر «دان غليمور» ثلاثة أحداث مرت على الأمريكيين كان للإعلام فيها حضور طاغٍ، ولكن بأشكال تعبر عن تطوره. ففي عام 1945 حين توفي الرئيس روزفلت كان الراديو هو الوسيلة الأكثر شيوعا، وفي عام 1963 اغتيل الرئيس جون كنيدي في دالاس، وكان التليفزيون هو المعبر عن الوجه الجديد للإعلام. وعند انهيار البرجين التجاريين في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لم تكن الوسائل التقليدية فقط حاضرة، بل كان الانترنت شريكا مؤثرا، ولم يقتصر الأمر على الصحفيين المحترفين في تغطيتهم، بل زاحمهم المواطنون بأدواتهم ووسائلهم الخاصة، والتي قد تلتقط صورا خاصة تفوق في أهميتها وتأثيرها ما سجله الصحفي المحترف.في يقيني أن الإعلام الجديد أصبح يمثل نظاما إعلاميا موازيا للإعلام التقليدي، الذي أنتجه ظرف اتصالي تنقصه الحرية، وتسيطر عليه الأنظمة بضوابطها السياسية، ويضغط عليه المال بسطوته، ما أبعده في كثير من الأحيان عن اهتمامات الجمهور وقضاياه الحقيقية.. بالإضافة إلى انعدام الثقة في معظم المؤسسات الإعلامية الرسمية.وهكذا وجد «الإعلام الجديد» أكبر وأهم عوامل انتشاره، وإن كان لا يخلو من مخاطر فقدان المهنية وعدم التيقن من المصداقية، والإغراق أحيانا كثيرة في الذاتية وضعف الجوانب الأخلاقية، إضافة إلى خلق شكل جديد من الديمقراطية غير المنضبطة بأطر سياسية تحدها. ورغم ذلك سيظل هذا الشكل الجديد موجودا، ما دام القهر والتهميش يلاحق نسبة كبيرة من سكان المعمورة.. والقادم أعظم وأخطر
|