بين عصر البلاغة الإلكترونية ومجرة غوتنبرغ(2)
في إطار مقارنة شيقة بين النص المكتوب والنص الإلكتروني، ينعى ريجيس دوبريه هذا المتعدد البراعات والمبدع بحسب التقريظ الذي كتبه عنه إدوارد سعيد في "صور المثقف، 1996" أقول ينعى تراجع المكتوب في عصر الصورة والكتابة الإلكترونية. فمن وجهة نظره أن المكتوب ينتمي إلى عصر مضى وانقضى، إلى عصر في طريقه إلى الزوال، وأن عصر البلاغة الإلكترونية من شأنه أن يسهر على جثة المكتوب ليسارع الى دفنها؟
يكتب دوبريه، كما أسلفت، في نص شيق يغوي بالقراءة ويقول قولاً سحرياً في الكلمات والأشياء وما بعدهما، خاصة في إطار مقارنته بين النص المكتوب بطابعه القدسي، حيث ذلك الترابط القوي بين القدسي بكل تجلياته بالمكتوب على مسار تاريخ طويل من تاريخ الحضارة البشرية، وبين النص الإلكتروني. يقول في إطار مقارنته بين الكتاب ونظام الكتابة الرقمي: إن الكتاب، هذا الجسم المستطيل المتوازي الغريب، المؤلف من غلاف وثنايا وأول وآخر، كان الحاكم أو الآمر الناهي في نظام فكر وسلطة وثقافة، وأحسب أن الكتابة الرقمية قد تطوي هذا النظام. إن الركن الأول في نظام الكتاب هي فكرة الكل الجامع. فالكتاب هو جملة مجتمعة وقائمة، ومجموع مغلق على نفسه. فهو، لهذا، على الضد من انفتاح النص الالكتروني، وثمة في ثبات الكتابة ما يخالف ميوعة النص الإلكتروني وسيولته. فالكتاب زمنه زمن السرد والخبر والقصة، وله ابتداء ويجري إلى خاتمة، وهذه الصور الثلاث: السرد، الكل، الثبات، تبدو لي إلى انصرام، وهذا على العكس من الرقمي الذي، بقدر ما يشيع ويعمم، يعصى على الجميع في كل واحد. إنه يقدم التجاور على التماسك كما في حالة الكتاب، ومضماره "انسخ ـ الصق" بامتياز، فلا مركز ولامرجع جامع.
ما يريد أن يصل إليه دوبريه قوله إن عصر الانترنت يقطع مع عصر المكتوب. ففي حالة المكتوب يكون الكتاب محصوراً بين المؤلف والقارئ، أما في عصر الانترنت فكل الناس يحتفظون بحقهم في المشاركة في النص والدخول إليه، من فوق إلى تحت وبالعكس، فليس من مركز ولا من مرجع جامع.
في كتابه الصادر مع أواسط عقد التسعينات من القرن المنصرم "الميديولوجيا أو علم الأعلام العام، 1996"، راح دوبريه ينشئ لنا خطاطة تطورية تطال تاريخ البشرية، على غرار تلك الخطاطات التي روّجت لها الماركسية في عز مجدها ومدها، كذلك من كانت تسميهم مرغريت ميد "انتربولوجيو المقاعد الوثيرة". الخطاطة ترى أن تاريخ البشرية مرّ بثلاث مراحل، أو ثلاثة مجالات:
المجال الأول: هو المجال الشفوي ويمتد على تاريخ طويل من تاريخ البشرية، من أول رقيم طيني دشن فيه عصر المكتوب حتى اختراع غوتنبرغ للمطبعة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وفيه كان الله يملي والإنسان يكتب، وفي هذا الاطار جاءت الكتب المقدسة الكبرى التي لا نزال ندين بمرجعيتنا لها، في الكبيرة والصغيرة.
المجال الثاني: ويدعوه دوبريه بالمجال الخطي، أي عصر الكتابة الذي افتتحه غوتنبرغ. فمن الرحم التكنولوجي لمطبعة غوتنبرغ، ولد الكتاب والصحيفة والمثقف. ويذهب دوبريه إلى أبعد من ذلك، إلى قوله ولدت الاشتراكية أيضاً من حيث هي دعوة للعدل ومن حيث هي نشاط للمثقف ليدلي بدلوه في الشأن العام في إطار مساعيه لتغيير العالم.
المجال الثالث: يدعوه دوبريه بعصر المجال التلفازي، عصر الصورة والكتابة الرقمية، لا بل ان الفيلسوف والمهندس الفرنسي بول فيريليو يدعوه بعصر البلاغة الإلكترونية وعصر المراقبة الالكترونية الشاملة. في هذا العصر تطفو الصورة على ما عداها ويصبح الجميع أسرى الصورة التي تساهم، كما يكتب دوبريه، في تحديد إقامة بورجوازي الطابع. ففي القديم كان الناس يخرجون من بيوتهم لسماع الأخبار وتلقيها، أما في عصر المجال التلفازي الذي يفرض على المرء نوعاً من العبودية، ونوعاً من الصلاة له، فيستطيع المرء أن يعرف كل أخبار العالم وهو يجلس إلى جانب تلفزيونه الدقيق الاستقبال الذي أصبح بعداً حميمياً في المجتمع الاستهلاكي كما يتهكم هربرت ماركيوز في كتابه الشهير "الانسان ذو البعد الواحد". بصورة أدق، أصبح الإنسان يستهلك الأخبار كما يستهلك الهامبرغر. إنه المركز الجديد لثقافة عالم ماك، أي عالم الثقافة الأميركية المعولمة كما يكتب بنجامين باربر في كتابه "الجهاد ضد عالم ماك" وهو عصفورنا الذي يزقزق كما يكتب باربر، الذي ينتقل فجأة من مكان إلى آخر دون تحديد هدف.
إن عصر الصورة، كما يرى كل من دوبريه وباربر، يروج لثقافة جديدة لا يمكن وسمها بغير الاستهلاك، وهي ثقافة متعية، ثقافة بطن وجنس وعنف، بحيث تصبح جميلات الشاشة من المغنيات وشاربات البيبسي كولا الجميلات وأبطال الرياضة وطيارو الخطوط الجوية ومخترعو الحاسوب هم أبطال هذا العصر بلا منازع، الذي تتصدره أيضا ديناصورات الحديقة الجوراسية. فكل دقيقة عنف تنحت، كما يقول دوبريه في حواره مع ماريو فارغاس، آلاف المستهلكين. إن عصر الصورة يتأسس حقاً على حساب المثقف الذي جاء من الرحم التكنولوجي للمطبعة متأبطاً الصحيفة باليسار والكتاب إلى اليمين، وسعيد هو كما يقول الخطاب الديني من جاء كتابه بيمينه؟
من وجهة نظر دوبريه، يدشن المجال التلفازي عصر هزيمة المثقف، من هنا نفهم تساؤل دوبريه في كتابه "كي لا نستسلم، 1995" الذي ترجمه بسام حجار إلى العربية، ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ داعياً المثقف إلى العودة إلى حجره أو جحره، وعدم الادلاء بدلوه في الشأن العام. فالأفكار ما عادت تقود العالم؟ والكتب ما عادت تصنع الثورات؟ ومجرة غوتنبرغ إلى تقهقر والى موت، والعاقل من يدفن موتاه.
الاتجاه الثاني: يرى أن مجرة غوتنبرغ إلى توسع كما يكتب إمبرتو إيكو في إطار دفاعه عن الكتاب، فصقيع البلاغة الالكترونية، لم يحل دون وصول الدفء وأشعة الشمس إلى المجرة، وما المراهنة على موت الكتاب وتراجعه في عصور البلاغة الإلكترونية إلا ضرب من فنتازيا فكرية. فالنص المكتوب لا يزال يحتفظ بقدسيته طالما أن المقدس يشكل بعداً أساسياً في حياة الانسان. ألم يعنون ريجيس دوبريه كتابه الاخير بـ"النار المقدسة"، ذلك القبس الآتي من البعيد والغامض والمجهول؟ صحيح أن دور الكتاب في النهي والحكم إلى تراجع لكنه ما زال يحتفظ بسطوته على قرائه ومعجبيه المفتونين بهذا الكل الجامع الحاوي على أسرار. فالكتاب، وعلى مسار تاريخي طويل، دائماً ما ينطوي على سحر وسر معاً. ألم يكتب إمبرتو إيكو روايته الجميلة "إسم الوردة" التي تدور أحداثها كلها حول كتاب ينطوي على سر؟ فميوعة النص الإلكتروني أصبحت مشاعة لا تغري كثيراً بالبحث عن سرها، أضف إلى ذلك قابلية هذا النص للاختراق، وبالتالي انتهاك قدسيته حيث يستعصي ذلك على الكتاب، الذي تنوس سردياته عادة بين بداية ونهاية، وهنا تكمن متعة السرد ومتعة النص المقروء معاً كما كان يسميها رولان بارت، وحيث تتلاشى هذه المتعة مع ميوعة النص الالكتروني وكثرة التواءاته