بعد أسبوعين على استيلاء الجيش السوري الحر على بلدة أعزاز المدمرة، بدأت البلدة تعود إلى الحياة، وفي سوق البلدة، أعادت معظم المتاجر فتح أبوابها، إذ ينتمي أصحاب بعض المتاجر التي لا تزال مغلقة إلى الموالين للنظام الذين يبقون متخفّين بحسب قول أحد أصحاب المتاجر.
يمزح أحمد العجيل قائلاً إن منزله في بلدة أعزاز كان من أثمن العقارات، ثم يضيف وهو يشير إلى المدافن المجاورة للمنزل: "لقد كان أفضل جزء من البلدة، ولا يمكن إيجاد جيران أكثر هدوءاً”. لكن من سوء حظ العجيل، كان منزله الثمين يقع أيضاً على مسافة قريبة من الفرع المحلي للاستخبارات العسكرية السورية، وطوال ثلاثة أسابيع، قصف الجيش السوري الحر ذلك المبنى والمناطق المحيطة على أمل إخراج الجنود السوريين القابعين في الداخل. سرعان ما نجح الثوار واستولوا على تلك البلدة الواقعة على بُعد خمسة أميال من الحدود التركية في 22 يوليو.
منذ بضعة أيام، عاد العجيل إلى أعزاز ووجد منزله مدمراً بسبب القصف، فلم يتبقَ الكثير من ممتلكاته بين الركام، وبحسب قوله، قام الجنود السوريون الذين استولوا على المنزل منذ أشهر بنهبه قبل الهرب.
لكنّ مشكلة العجيل أصبحت شائعة جداً. يقل عدد المباني التي لا تزال سليمة في ذلك الشارع، وتنتشر أنقاض مسجد مجاور شهد معركة محتدمة فوق بقايا دبابات كثيرة تابعة للجيش. باتجاه الغرب، ينتشر أثاث مبعثر وأوراق متفرقة وزجاج مكسور على أرض مدرسة ابتدائية محلية. ظهر بين الركام تقرير عن فتاة تبلغ 11 عاماً، وفي إحدى الصفحات، دُوّنت علامات الفتاة بحبر أزرق، وفي الصفحة التالية، كُتبت ملاحظات عن سلوكها: كانت متعاونة وجديرة بالثقة وتحب النظام!
بينما كان العجيل وأبناؤه المراهقون يبحثون عن الخردة وسط الركام وفي مكاتب استخبارات الجيش المدمرة، وصل مقاتل شاب كان يحمل هاتفاً خليوياً في يده فشغّل فيديو مسجلاً قبل أسابيع عدة. يُظهر ذلك الفيديو رجلاً منبطحاً على الأرض وعلى رأسه ضمادة يرشح منها الدم. كان الرجل الذي يظهر في الفيديو نسيبه وقد كان رجلاً متفانياً، وعندما دخل الجنود السوريون إلى المسجد المجاور من دون خلع أحذيتهم، قام بتوبيخهم ودفع ثمن ذلك.
بعد أسبوعين على استيلاء الجيش السوري الحر على بلدة أعزاز المدمرة، بدأت البلدة تعود إلى الحياة، وفي سوق البلدة، أعادت معظم المتاجر فتح أبوابها، إذ ينتمي أصحاب بعض المتاجر التي لا تزال مغلقة إلى الموالين للنظام الذين يبقون متخفّين بحسب قول أحد أصحاب المتاجر (ثم أضاف أن هؤلاء الأشخاص غير مرحب بهم إلا إذا عادوا مكبّلين). عندما كان الجيش يدير الوضع، أُجبرت جميع المتاجر على الإقفال بحسب قول اللحام محمد رمدو، وكان القناصة الذين تمركزوا فوق مآذن المسجد الذي تدمر الآن يستهدفون أي شخص يدخل المنطقة، واليوم، يقول رمدو إن الأعمال جيدة مع أن أسعار الغذاء ترتفع. (يتم تهريب إمدادات كثيرة عبر الحدود من تركيا). لكن لا يحصل معظم الناس على الغاز، فخلال الأسبوعين الأخيرين، يقول صاحب متجر أجهزة إن سعر اللوحة الكهربائية ارتفع بثلاثة أضعاف.
في مسجد بالقرب من السوق، كان إمام شاب في الخامسة والعشرين من عمره يهتف بصوته الرفيع والمضخّم عبر مكبر الصوت ويطلق شعارات ضد النظام قبل صلاة الظهر: "بشار الأسد هو عدو الشعب وعدو سورية وعدو الإنسانية. يجب أن يتوحد السوريون ضده حتى لو لم تهبّ الدول الإسلامية الأخرى لمساعدتهم”.
تحدث الإمام يوسف فاتح العشاوي معي ومع صحافي آخر داخل مكتب صغير خارج المسجد فقال: "لطالما أردت أن أقول: هذا أمر صائب وهذا أمر خاطئ! ولطالما أردت انتقاد بشار الأسد. قبل الثورة، كان النظام يسمح بفتح متاجر لبيع الكحول في أنحاء المحافظة لكنني لم أكن أستطيع تعليم القرآن”.
بعد أن أصبح الإمام الشاب حراً كي يعبّر عن رأيه أخيراً، لا شيء يمكن أن يردعه. رداً على سؤال عن مستقبل سورية، أجاب الإمام: "يجب أن تكون الشريعة الإسلامية أساس القانون لأن 80% من السوريين مسلمون. لكننا نحتاج إلى نظام إسلامي يحترم جميع الطوائف في سورية بغض النظر عن انتماءاتها. لن نعارض أي شخص غير إسلامي ولن نجبره على تطبيق الشريعة”.
فضلاً عن تقديم الخدمات في المساجد في أنحاء بلدة أعزاز، كان العشاوي يقاتل مع الجيش السوري الحر. في شهر أغسطس من السنة الماضية، عندما احتفلت البلدة بمقتل أول شهيد فيها، قام بأمر لم يجرؤ أي إمام آخر على فعله، فصلّى علناً على روح الشهيد. في الليلة نفسها، بعد أن أدت عظته إلى انطلاق تظاهرات ضد النظام، اعتُقل على يد مسؤولين أمنيين وسُجن في حلب.
بعد اعتقاله للمرة الثانية، قرر العشاوي الانضمام إلى القتال: "كنا مجموعة من سبعة رجال وكانت أول مجموعة تحمل السلاح ضد النظام في أعزاز. بعد أن حملنا الأسلحة، بدأ الناس يشعرون بحرية أكبر كي يتظاهروا لأنهم شعروا بأننا كنا نحميهم”.
يعترف الإمام بأنه وجد صعوبة في البداية في استعمال الأسلحة لأنه رجل مؤمن. فسأل أحد كبار الشيوخ: "ماذا لو قتلتُ شخصاً بريئاً؟”. فأجابه الشيخ: "إذا قتلت شخصاً بريئاً عن غير قصد، لن ترتكب خطيئة لأنك لم تكن تعلم أنه بريء. ثمة أمور وحده الله يعرفها”.
تقع بلدة أعزاز، حتى الآن على الأقل، ضمن ممر في منطقة يسيطر عليها الجيش السوري الحر وتمتد تلك المنطقة حتى الحدود التركية من مدينة حلب الشمالية. يدعي الثوار أن المعقل الوحيد الذي يملكه الجيش السوري يقع في قاعدة جوية خارج البلدة. انطلاقاً من ذلك المكان، يتم إرسال المروحيات لقصف حلب والأرياف المحيطة بها. قبل يوم من وصولي إلى هناك، أطلقت قوات الجيش السوري الحر هجوماً دام ست ساعات ضد تلك القاعدة. أكد لي أحمد الغزالي، قائد محلي في الجيش السوري الحر: "سنسيطر عليها خلال أربعة أو خمسة أيام”.
بعيداً عن مشاعر التفاؤل السائدة، عرّف الغزالي عن نفسه قائلاً إنه القائد العسكري في البلدة وتذمر من افتقار رجاله للأسلحة. كان يجلس وراء مكتب في مبنى حزب البعث المحلي حيث تمركز بعض المقاتلين فأوضح قائلاً: "جميع الأسلحة التي نملكها هي تلك التي صادرناها من الجيش السوري أو تلك التي اشتريناها”. (اعترف قائد آخر من الجيش السوري الحر بأن الثوار كانوا يشغّلون مصنعاً موقتاً للمتفجرات في أعزاز لكنّ قلة من الأسلحة التي تم إنتاجها هناك تفيد في المعارك)، ونتيجةً لذلك، قال الغزالي إنه كان يستطيع نشر عشرة مقاتلين يومياً فقط لتعزيز صفوف الجيش السوري الحر في حلب.
أوضح القائد أن بعض الأسلحة التي اشتراها الثوار تأتي من الجيش السوري مباشرةً، وفي إحدى المرات، أبلغ جندي انشق حديثاً عن الجيش مقاتلين في الجيش السوري الحر بأن جنرالاً سورياً من قاعدته السابقة كان مستعداً لبيعهم مجموعة من الأسلحة التي تشمل بنادق هجومية، وقنابل صاروخية "أر بي جي”، ورشاشات ثقيلة من طراز "دوشكا”. نجح الطرفان في عقد صفقة، وأوضح الغزالي: "اضطررنا إلى دفع ضعف القيمة، أي 22،5 مليون ليرة سورية (350 ألف دولار). هؤلاء الأشخاص لا يهتمون إلا بجني المال. لدينا أسماء هؤلاء الضباط الذين باعونا الأسلحة… إذا اعتقلناهم، فستكون عقوبتهم مضاعفة لأنهم خانوا شعبهم وجيشهم”.